فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (12):

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}.
مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ مَفَاتِيحُهُمَا، وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَمُفْرَدُهَا إِقْلِيدٌ، وَجَمْعُهَا مَقَالِيدُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْإِقْلِيدُ الْمِفْتَاحُ. وَقِيلَ: وَاحِدُهَا مِقْلِيدٌ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ.
وَكَوْنُهُ- جَلَّ وَعَلَا- لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مَفَاتِيحُهُمَا، كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ- جَلَّ وَعَلَا- هُوَ وَحْدَهُ الْمَالِكُ لِخَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ مَفَاتِيحِهَا يَسْتَلْزِمُ مِلْكَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- مِثْلَ هَذَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [39/ 62- 63].
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الشُّورَى هَذِهِ وَآيَةُ الزُّمَرِ الْمَذْكُورَتَانِ مِنْ أَنَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- هُوَ مَالِكُ خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [63/ 7]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [15/ 21].
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ خَزَائِنَ رَحْمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [38/ 9]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [52/ 37]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [17/ 100].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} الْآيَةَ [34/ 39]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [34/ 36]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [13/ 26]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} الْآيَةَ [16/ 71]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [43/ 32]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} الْآيَةَ [4/ 135]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} الْآيَةَ [65/ 7]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [65/ 7] أَيْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ لِقِلَّتِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
أَيْ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ بَسْطَهُ لَهُ وَيَقْدِرُ، أَيْ يُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ تَضْيِيقَهُ عَلَيْهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [21/ 87].
وَقَدْ بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي بَعْضِ الْآيَاتِ حِكْمَةَ تَضْيِيقِهِ لِلرِّزْقِ عَلَى مَنْ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ أَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ لِلْإِنْسَانِ، قَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [42/ 27]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [96/ 6].

.تفسير الآية رقم (13):

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الْآيَةَ [33/ 7].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ}، رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِافْتِرَاقِ فِي الدِّينِ- جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَصَّى خَلْقَهُ بِذَلِكَ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الْآيَةَ [3/ 103]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [6/ 153]. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَجْتَنِبُونَ هَذَا النَّهْيَ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [6/ 159]. لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: يَفْعَلُونَ- فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [23/ 52- 54].
فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ: إِنَّ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمْ شَرِيعَةً وَاحِدَةً، وَدِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ، وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ فَلَا تَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ.
وَقَوْلُهُ- جَلَّ وَعَلَا-: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَنِبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فِيهِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [21/ 92- 93]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فِيهِ أَيْضًا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الْآيَةَ [21/ 93].
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ افْتِرَاقُ الْيَهُودِ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}.
بَيِّنَ- جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَعَظُمَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَلِعِظَمِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِمَنْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهَا.
وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَادَةُ الْكَافِرِينَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَشَقَّةَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَكِبْرَهُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} الْآيَةَ [10/ 71]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [71/ 7].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ، فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُمْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [22/ 72]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} الْآيَةَ- يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهِيَتِهِمْ لِسَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الْآيَةَ [41/ 26]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الزُّخْرُفِ: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [43/ 78].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [23/ 70]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقِتَالِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [47/ 9]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [45/ 6- 8]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [31/ 7]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} الْآيَةَ [41/ 5]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يُطِيعَهُمْ فِي بَعْضِ أَمْرِهِمْ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَتَائِجَ سَيِّئَةً مُتَنَاهِيَةً فِي السُّوءِ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [47/ 24- 28]. فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ ثُمَّ يَحْذَرَ ثُمَّ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا، الَّذِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ-: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ لَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَكْفِيهِ زَجْرًا وَرَدْعًا عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [47/ 27- 28].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.
الِاجْتِبَاءُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَعْنَاهُ الِاخْتِيَارُ وَالِاصْطِفَاءُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجْتَبِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ اجْتِبَاءَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَعْضَ مَنْ شَاءَ اجْتِبَاءَهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} إِلَى قَوْلِهِ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [22/ 77- 78].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الْآيَةَ [35/ 32].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْهُمْ آدَمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [20/ 122]. وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً إِلَى قَوْلِهِ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ} الْآيَةَ [16/ 120- 121]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اجْتِبَاءِ بَعْضِ الْخَلْقِ بِالتَّعْيِينِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُنِيبُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [13/ 27].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}.
تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [2/ 136].

.تفسير الآية رقم (17):

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}.
بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَقَوْلُهُ: الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَنَّ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُطْلَقُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْمِيزَانَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمِيزَانَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمِيزَانُ فِي الْآيَةِ هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِيزَانَ مِفْعَالٌ، وَالْمِفْعَالُ قِيَاسِيٌّ فِي اسْمِ الْآلَةِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ- وَهُوَ أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ- فَالْمِيزَانُ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ دَاخِلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزِلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ- أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [57/ 25].
فَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَنْزَلَ مَعَ رُسُلِهِ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [55/ 7- 9].
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ الْمِيزَانَ فِي سُورَةِ الشُّورَى وَسُورَةِ الْحَدِيدِ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَأَنَّ الْمِيزَانَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْمِيزَانُ الْمَعْرُوفُ، أَعْنِي آلَةَ الْوَزْنِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا بَعْضُ الْمَبِيعَاتِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى وَسُورَةِ الْحَدِيدِ عَبَّرَ بِإِنْزَالِ الْمِيزَانِ لَا بِوَضْعِهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّورَى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ. وَقَالَ فِي الْحَدِيدِ: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [57/ 25].
وَأَمَّا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ عَبَّرَ بِالْوَضْعِ لَا الْإِنْزَالِ، قَالَ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [55/ 7]. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [55/ 9] لِأَنَّ الْمِيزَانَ الَّذِي نُهُوا عَنْ إِخْسَارِهِ هُوَ أَخُو الْمِكْيَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [26/ 181- 183]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [83/ 1- 3]. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} الْآيَةَ [11/ 84]. وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ أَيْضًا: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} الْآيَةَ [7/ 85]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [6/ 152]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدِ اخْتَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ فِي سُورَةِ الشُّورَى وَسُورَةِ الْحَدِيدِ- هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ هُوَ آلَةُ الْوَزْنِ الْمَعْرُوفَةُ، وَذَكَرْتُمْ نَظَائِرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْتُمْ يُشَكَّلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ كُلُّهَا عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ جَازَ عَطْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [87/ 1- 4]. فَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ وَالصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ سَاغَ الْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ** وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمِيزَانُ: فَيَصْدُقُ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهَا.
فَالتَّأْفِيفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [17/ 23]. مِنَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْعُ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ مَثَلًا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَلَى التَّأْفِيفِ مِنَ الْمِيزَانِ، أَيْ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَقَبُولُ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [65/ 2] مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِيهِ.
وَقَبُولُ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَتَحْرِيمُ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الْآيَةَ [4/ 10]- مِنَ الْكِتَابِ.
وَتَحْرِيمُ إِغْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ وَإِحْرَاقِهِ الْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ- مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَجَلْدُ الْقَاذِفِ الذَّكَرِ لِلْمُحْصَنَةِ الْأُنْثَى ثَمَانِينَ جِلْدَةً وَرَدُّ شَهَادَتِهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الْآيَةَ [24/ 4- 5]- مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ.
وَعُقُوبَةُ الْقَاذِفِ الذَّكَرِ لِذَكَرٍ مِثْلِهِ، وَالْأُنْثَى الْقَاذِفَةِ لِلذَّكَرِ أَوْ لِأُنْثَى بِمِثْلِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْقُرْآنِ- مِنَ الْمِيزَانِ الْمَذْكُورِ.
وَحِلِّيَّةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْتُوتَةً، بِسَبَبِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَاقِهِ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [2/ 230] أَيْ فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ- فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْتُوتَةً، وَالزَّوْجُ الَّذِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ- أَنْ يَتَرَاجَعَا بَعْدَ نِكَاحِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ لَهَا- مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَأَمَّا إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا وَكَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَحِلِّيَّتُهَا لِلْأَوَّلِ الَّذِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ- مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ رُسُلِهِ.
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمَذْكُورِ، وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الْآيَةَ [21/ 78].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} الْآيَةَ [16/ 1]. وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [33/ 63]. وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} الْآيَةَ [40/ 18].

.تفسير الآية رقم (18):

{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالسَّاعَةِ يَسْتَعْجِلُونَ بِهَا، أَيْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ إِنْكَارِهِمْ لَهَا.
وَالثَّانِيَةَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ مِنْهَا، أَيْ خَائِفُونَ مِنْهَا.
وَالثَّالِثَةَ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَيْ أَنَّ قِيَامَهَا وَوُقُوعَهَا حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا اسْتِعْجَالُهُمْ لَهَا فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} [13/ 6]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ إِشْفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَوْفُهُمْ مِنَ السَّاعَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [21/ 49]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [24/ 37]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [76/ 7].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ عِلْمُهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهَا لَا رَيْبَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الرَّيْبِ فِيهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} الْآيَةَ [3/ 9]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} الْآيَةَ [4/ 87]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} الْآيَةَ [3/ 25]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} الْآيَةَ [42/ 7]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [22/ 6- 7]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [25/ 11].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُمَارُونَ، مُضَارِعُ مَارَى يُمَارِي مِرَاءً وَمُمَارَاةً، إِذَا خَاصَمَ وَجَادَلَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [18/ 22].
وَقَوْلُهُ: {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} أَيْ بَعِيدٍ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَعَ الشَّوَاهِدِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [26/ 20]. وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.

.تفسير الآية رقم (23):

{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} الْآيَةَ [11/ 29]- أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ وَالسَّلَامُ- لَا يَأْخُذُونَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَآيَةِ الشُّورَى هَذِهِ، فَقُلْنَا فِيهِ:
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ- أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَتَكُفُّوا عَنِّي أَذَاكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِنْ أَذَى النَّاسِ، كَمَا تَمْنَعُونَ كُلَّ مَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مِثْلُ قَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَحِمٌ، فَهَذَا الَّذِي سَأَلَهُمْ لَيْسَ بِأَجْرٍ عَلَى التَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَوَدُّهُ أَهْلُ قَرَابَتِهِ وَيَنْتَصِرُونَ لَهُ مِنْ أَذَى النَّاسِ.
وَقَدْ فَعَلَ لَهُ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ وَلَمْ يَكُنْ يَسْأَلُ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ.
وَإِذَا كَانَ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا إِلَّا هَذَا الَّذِي لَيْسَ بِأَجْرٍ- تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَجْرًا، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ.
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ لَا تُؤْذُوا قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي، وَاحْفَظُونِي فِيهِمْ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا.
لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَحْرَى قَرَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [9/ 71]. وَفِي الْحَدِيثِ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». وَالْأَحَادِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الدِّينُ يُوجِبُ هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ عِوَضٍ عَنِ التَّبْلِيغِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ.
فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لَكِنْ أُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي فِيكُمْ.
وَعَلَى الثَّانِي: لَكِنْ أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي قَرَابَتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمْ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ- وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ-: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى اللَّهِ، وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ إِلَّا أَنْ تَتَوَدَّدُوا إِلَى قَرَابَاتِكُمْ وَتَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَاسِمٍ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا إِشْكَالَ.
لِأَنَّ صِلَةَ الْإِنْسَانِ رَحِمَهُ لَيْسَتْ أَجْرًا عَلَى التَّبْلِيغِ، فَقَدْ عَلِمْتَ الصَّحِيحَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَظَهَرَ لَكَ رَفْعُ الْإِشْكَالِ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [34/ 47]- فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
مَعَ أَنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَعْنَى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي أَهْلِ قَرَابَتِي.
وَمِمَّنْ ظَنَّ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ السَجَّادُ؛ حَيْثُ قَالَ لِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ: أُذَكِّرُكَ حم يَعْنِي سُورَةَ الشُّورَى هَذِهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْزَمُ حِفْظَهُ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حم هَذِهِ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فَهُوَ يُرِيدُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ، يَظُنُّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَلِذَا قَالَ قَاتِلُهُ فِي ذَلِكَ:
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرُ ** فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ

وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَيْتَ وَالْأَبْيَاتَ الَّتِي قَبْلَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي قَائِلِ الْأَبْيَاتِ الَّذِي قَتَلَ مُحَمَّدًا السَّجَّادَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْجَمَلِ، هَلْ هُوَ شُرَيْحُ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيُّ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، أَوِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، أَوْ عِصَامُ بْنُ مُقْشَعِرٍّ، أَوْ مُدْلِجُ بْنُ كَعْبٍ السَّعْدِيُّ، أَوْ كَعْبُ بْنُ مُدْلِجٍ.
وَمِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا ظَنَّهُ مُحَمَّدٌ السَّجَّادُ الْمَذْكُورُ- الْكُمَيْتُ فِي قَوْلِهِ فِي أَهْلِ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً ** تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ

وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىُُ أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي فِيكُمْ وَتَحْفَظُونِي فِيهَا، فَتَكُفُّوا عَنِّي أَذَاكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِنْ أَذَى النَّاسِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَهْلُ الْقُرَابَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}. الِاقْتِرَافُ مَعَنَاهُ الِاكْتِسَابُ، أَيْ مَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ وَيَكْتَسِبْهَا- نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا، أَيْ نُضَاعِفْهَا لَهُ.
فَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ هِيَ الزِّيَادَةُ فِي حُسْنِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [4/ 40]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [6/ 160]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [2/ 245]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [73/ 20]. فَكَوْنُهُ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا زِيَادَةٌ فِي حُسْنِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [9/ 104]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الْآيَةَ [66/ 8]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [3/ 135]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّوْبَةِ وَأَرْكَانَهَا وَإِزَالَةَ مَا فِي أَرْكَانِهَا مِنَ الْإِشْكَالِ فِي سُورَةِ النُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [24/ 31].